فى يوم 12 من ذى القعدة 1018 هجرية، الموافق 6 من فبراير 1610 ميلادية، ذهبت الحرمة توزر ابنة المرحوم موسى الكيرونى للمحكمة الشرعية فى الإسكندرية، حيث ادعت على زوجها الحاج عبدالدايم بن المرحوم فريج المغربى المسراتى، بأنها تستحق منه مبلغا قدره أربعة آلاف وثلاثمائة نصف فضة كمقدم صداقها عليه، وكجزء من ثمن كسوتها الشرعية فى مدة خمسة وعشرين سنة هى مدة زواجها منه، وكنظير أجرتها فى ثمان أثواب صوف اشتغلتها له
كما ادعت توزر أيضا على زوجها بأنه تعدى عليها أمس من تاريخه وضربها بمنقل على قصبة ذراعها اليسرى فكسرت العظم، وطالبته بما يترتب عليه بسبب ضربه لها، ولدى سماع الدعوى فى المحكمة الشرعية سأل القاضى الشرعى، أحمد أفندى الحسينى، الزوج إن كان له رد على دعوى زوجته، فرد قائلا إن جميع المبلغ الذى تدعى به عليه كان قد دفعه لها ولأبيها ولابن عمها، فطالبه القاضى بإحضار بينة تثبت ذلك، فلم يستطع.
ثم أمر القاضى الشيخ شهاب الدين الدمنهورى، شيخ طائفة الجراحين بالإسكندرية، أن يكشف على ذراع الحرمة توزر، فوجدها منكسرة، وأخبر القاضى بذلك إخبارا شرعيا. وبعد سماع الدعوى، وبعد أن تمكنت المدعية من إقامة البينة على زوجها، وبعد أن فشل المدعى عليه من إحضار بينة أخرى تدحض دعوى زوجته، أمر القاضى الزوج بدفع المبلغ المدعية به زوجته عليه، وعندما رفض ذلك، أمر القاضى بحبسه بسجن الشرع الشريف، ثم بعد أن تأكد لديه بأن الزوج ضرب زوجته «أدبه على ذلك التأديب الشرعى».
هذه القضية وعشرات الآلاف غيرها مودعة فى سجلات المحاكم الشرعية المحفوظة فى دار الوثائق القومية بالقاهرة. وتزخر دور الوثائق الأخرى فى منطقتنا (فى دمشق والقدس واسطنبول) بعشرات السجلات الأخرى التى أنتجتها المحاكم الشرعية فى حواضر العالم الإسلامى على مدى التاريخ الإسلامى بامتداده وتحديدا أثناء فترة الحكم العثمانى (أى من أوائل القرن السادس عشر حتى أواخر القرن التاسع عشر). ونظرا لغنى هذه السجلات واشتمالها على معلومات تاريخية قيمة فقد انكب عليها المؤرخون، عند اكتشافها منذ نحو أربعة عقود، وأخذوا يدرسون شتى نواحى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فى العصر العثمانى. فقد أمدت سجلات المحاكم الشرعية المؤرخين بمعلومات تاريخية فريدة مكنتهم من دراسة موضوعات مثل أحوال المرأة فى المجتمع الريفى، ونظام حيازة الأراضى، ومستوى الأجور والأسعار، وتطور المدن وأنظمة العمارة فيها، ومؤسسة الأسرة وتاريخ الزواج والتفريق من طلاق وفسخ وخلع، والمجاعات والأوبئة، وعلاقة عاصمة السلطنة، اسطنبول، بالولايات التابعة لها، وغير ذلك الكثير والكثير مما جادت به الدراسات الأكاديمية التاريخية على مدى الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية.
على أن سجلات المحاكم الشرعية، على غناها بمعلومات فريدة عن التاريخ الاجتماعى والاقتصادى والثقافى لمجتمعاتنا، غنية أيضا بمعلومات عن تاريخ الشريعة والفقه. فهذه السجلات، فى حقيقتها، سجلات أنتجتها مؤسسة قانونية، هى المحكمة الشرعية، التى كان يرأسها قاض شرعى، والتى كانت مهمتها البت فى نزاعات قضائية بناء على مبادئ وأصول فقهية. وبالتالى فسجلات المحاكم الشرعية تعد مصدرا فريدا لمعرفة كيف فهمت المجتمعات الإسلامية السابقة النصوص الشرعية، وكيف تفاعلت مع الفقه وأصوله، وكيف طبقت الشريعة.
وقد بدأ المؤرخون يولون عنايتهم لهذا الجانب من جوانب سجلات المحاكم الشرعية، أى ذلك الجانب الذى يلقى الضوء على تاريخ الممارسة القضائية. فعلى مدى العقد ونصف الماضيين ظهرت الدراسات التى تتناول طريقة عمل القاضى فى المحكمة الشرعية، من تعديل للشهود، وتحليف للمدعين، وتسجيل للقضايا، وإصدار للأحكام، كما تناولت الدراسات التاريخية تفاصيل مثل دور نائب القاضى، وشهادة الخبراء (مثل شيخ طائفة الجراحين المذكور أعلاه)، وطريقة سماع الدعوى على المذاهب المختلفة، وعلاقة القضاء الشرعى بقضاء المظالم، وفساد القضاة وعدم كفاءتهم، وإقبال الناس على المحاكم وإدراكهم لتفاصيل العمل فيها، وأساليب تدوين السجلات وأسباب حفظها.
وقد تمكنت هذه الدراسات التاريخية من رسم صورة مبدئية لطريقة تطبيق الشريعة فى العصور الماضية. فالقاضى الشرعى يحكم فى محكمته بناء على فهمه للفقه وتمكنه من متونه. وهو سيد محكمته وحاكمها، لا معقب على أحكامه ولا ناقض. ولكنه يعمل أيضا بالاستعانة بالشهود العدول، وهؤلاء هم وجوه البلده وأعيانها، وهم من لديهم الخبرة المحلية التى بدونها لا يستطيع القاضى أن يحكم، فهم من يستطيعون إثبات شخصية الشهود وتعديلهم (أى التأكد من سمعتهم وصدقهم ومنزلتهم الاجتماعية)، وهم أيضا عيون المجتمع على القاضى وهم من يضمنون أن القاضى ليس فاسدا أو مرتشيا أو جاهلا بالفقه ومصادره.
كما ألقت هذه الدراسات الضوء على إدراك الناس للمحكمة الشرعية وفهمهم لتقاصيل العمل فيها. فالمرأة باستطاعتها طلب الخلع من زوجها (وكان ذلك غالبا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل) ومعاقبة زوجها على ضربه لها (كما رأينا فى قضية الحرمة توزر، عاليه)، وفسخ زواجها بسبب غياب زوجها. والمتقاضون يدركون أهمية الفتوى فى تعضيد دعاويهم، ويلمون بتعدد المذاهب وبحقهم فى رفع قضاياهم على المذهب الذى يرتأونه الأنسب لهم. والدولة وإن كانت لا تتدخل فى عمل القاضى فى محكمته فإن لديها قضاء آخر موازيا، هو قضاء المظالم، تستطيع فيه أن تبت ما استعصى على القضاء الشرعى حسمه، كما أن لديها القدرة على توجيه قضايا بعينها لقضاة بعينهم بناء على مذهبهم الفقهى لإدراكها بأن هذا المذهب تحديدا لديه القدرة على البت بيسر وسهولة فى قضايا بعينها، مثل قضايا الزوج الغائب الذى يسمح الفقه المالكى بالحكم فيها بالتفريق بينما يشترط المذهب الحنفى مرور تسعة وتسعين سنة حتى يُجزم بوفاة الزوج والحكم بالطلاق.
هذا الكم الهائل من المصادر التاريخية الأولية والدراسات الموثقة عن تاريخ الشريعة والقضاء لا يعبأ بها الإسلاميون، من إخوان وسلفيين، بل أظن أنهم لا يعلمون عنها شيئا. فالشريعة فى نظرهم تختزل فى بضع من أمهات كتب الفقه، دون التفات لمصادر الشريعة الأخرى، من فتاوى، وشروح، ورسائل، وقضاء شرعى، وقضاء مظالم، وغيرها من المصادر الأخرى التى أثْرت الشريعة على امتداد تاريخها الطويل ومكنتها من التطور والتأقلم والتغير، كما أنهم بتركيزهم على الفقه واتخاذهم إياه على أنه هو، وهو وحده، مساو للشريعة، أغفلوا دور المجتمع فى التعاطى مع الشريعة والتفاعل معها. فسجلات المحاكم الشرعية توضح لنا أن تطبيق الشريعة فى العصور السابقة لم يكن يتم بإصدار الدولة لقوانين نابعة من الشريعة الإسلامية، بل بإقبال الناس على المحاكم الشرعية، تلك المحاكم التى كانت تسمح للمتقاضين أن يختاروا مذهبهم، والتى كانت تقابل سلطة القاضى برقابة المجتمع، ممثلا فى الشهود العدول، عليه، والتى كانت تعمل فى موازاة قضاء المظالم الذى أعطى الناس الفرصة لمقاضاة قضاة الشرع أنفسهم عند انحرافهم عن جادة الشرع.
إن المشكلة الأساسية فى مطلب الإسلاميين الأول، «تطبيق شرع الله»، لا تكمن فقط فيما يحمله هذا المطلب من تحد لمؤسسة القضاء المصرى الحديث، أو لمقومات الدولة المدنية، أو لمبدأ المساوة بين المواطنين. المشكلة الأساسية فى رأيى تكمن فى أن الداعين لهذا المطلب يختزلون الشريعة فى الفقه، ثم يختزلون الفقه فى حفنة من النصوص الفقهية، ثم يختارون من هذه النصوص أكثرها تزمتا ويعملون على صيغتها فى نص قانونى ينتمى للفكر التشريعى الفرنسى أكثر مما ينتمى للشريعة ومبادئها وتنوعها وغناها وتطورها وتاريخها.
إن الشريعة لها تاريخ، وهذا التاريخ ليس تاريخ فكر فقط، بل تاريخ ممارسة أيضا. وسجلات المحاكم الشرعية العديدة تلقى الضوء على تاريخ هذه الممارسة، وهو تاريخ قد يجده الإسلاميون مفيدا وملهما فى محاولتهم «تطبيق الشريعة». على أنهم قد يجدونه أيضا محيرا، إذ إن الفاعل الأساسى فيه الناس وليس النص.
فى يوم 12 من ذى القعدة 1018 هجرية، الموافق 6 من فبراير 1610 ميلادية، ذهبت الحرمة توزر ابنة المرحوم موسى الكيرونى للمحكمة الشرعية فى الإسكندرية، حيث ادعت على زوجها الحاج عبدالدايم بن المرحوم فريج المغربى المسراتى، بأنها تستحق منه مبلغا قدره أربعة آلاف وثلاثمائة نصف فضة كمقدم صداقها عليه، وكجزء من ثمن كسوتها الشرعية فى مدة خمسة وعشرين سنة هى مدة زواجها منه، وكنظير أجرتها فى ثمان أثواب صوف اشتغلتها له