اعلانات

فوزي نمر طيف من ذاكرتنا الوطنية

فوزي نمر طيف من ذاكرتنا الوطنية

فوزي نمر طيف من ذاكرتنا الوطنية بقلم يحيى رباح

من النادر، بل من النادر جداً، أن نعرف شخصاً يكون بطلاً في رواية منشورة في كتاب، ولكنه في نفس الوقت، يعيش معنا في حياتنا اليومية، دون أن تحدث المفارقة الحادة بين البطل الروائي والبطل الحقيقي!!!

وهذا ما حدث معي بالضبط حين تعرفت على فوزي نمر وهو أحد أبطال رواية الكاتب والباحث والروائي توفيق فياض، التي نشرها في بيروت في السبعينيات، حين تعرفت على فوزي في مدينة غزة في التسعينيات.

توفيق فياض كتب روايته عن تلك المجموعة الفدائية الفتحاوية المميزة وهي المجموعة 778، التي كانت القيادة العامة لقوات العاصفة تصدر لها الأوامر من خلال أثير إذاعتنا “صوت العاصفة” في نهاية الستينيات، من خلال رسالة مشفرة تذاع على الهواء بين وقت وآخر، رسالة تقول : “من ألف قاف إلى 778، افتح يا سمسم” ولم يكن سمسم بطبيعة الحال هو ذلك الجني في حكاية علاء الدين والأربعين حرامي التي تنتمي إلى حكايات الخيال، بل هو اسم شاطئ قديم مهجور على بحر حيفا، يرسو عليه بين وقت وآخر قارب صيد قديم يقوده البحار المخضرم قاسم أبو خضرة ابن مدينة عكا، حيث يفرغ حمولته من السلاح بين وقت وآخر على ذلك الشاطئ، فيأتي بقية أفراد المجموعة، ومن بينهم فوزي نمر، ويأخذون ذلك السلاح لاستخدامه في عملياتهم النوعية في ذلك الزمن، زمن الكفاح المسلح المليء بالبطولات والحكايات المدهشة.

إذاً، هذا هو فوزي نمر بطل رواية المجموعة 778، وبطل الرسالة المشفرة افتح يا سمسم التي كنا نذيعها من إذاعة صوت العاصفة دون أن نعرف أسرارها الحية!!!

ها هو بلحمه ودمه يعيش معنا حياتنا اليومية ونحن نضع أول مداميك سلطتنا الوطنية في منتصف التسعينيات، لتكون هي نفسها أول لبنات دولتنا الفلسطينية المستقلة الآتية حتماً، لتكون واحدة من أقانيمنا الفلسطينية الثلاثة المقدسة “الوطن، والكيان، والهوية” .

المناضل فوزي نمر زوج المناضلة فاطمة برناوي، غادرنا منذ أيام قلائل، فاضت روحه إلى بارئها، بعد أن عاش بزخم زمن الثورة، وعاش بفرح زمن الأمل ونحن نضع اللبنة الأولى في “غزة وأريحا أولاً” ولكنه عاش أيضاً زمن المرارة، المرارة القصوى، زمن الانقسام الذي يبدو للمناضلين حتى هذه اللحظات أنه مبهم، غير مفهوم على الإطلاق، غير مبرر بالمرة، خارج عن السياق تماماً!!!

إذ كيف لقوم أن يذبحوا أنفسهم، يشطرون أنفسهم إلى شلوين، هدية بالمجان لعدوهم الوجودي الاحتلال الإسرائيلي؟؟؟

في هذه السنوات العجاف، كان فوزي نمر ينجو بنفسه من مرارة الواقع، ومن صخب الشعارات البلهاء، ومن ضجيج الأكاذيب التي يتصاعد منها الباخور المقدس، وعمليات تزوير الأجندة الوطنية، ينجو بنفسه، ويذهب هناك إلى ذاته الأخرى في عالم الرواية، إلى حقيقته الأولى، إلى بداية الينابيع، حيث كل شيء واضح وصادق ونبيل “زي الشمس”، حين كان المناضلون يتلذذون في إخفاء بطولاتهم من أجل استمرار العطاء للثورة، وحين كان الفدائيون على ضفاف الأنهار، وفي سفوح الجبال وقممها الثلجية، يتخاصمون للحظات بسبب المنافسة أيهم يذهب لتنفيذ العملية أولاً!!!

وحين كان فوزي نمر، ومحمد حسن الهيب، وقاسم أبو خضرة، وأمثالهم من أوائل المناضلين داخل الخط الأخضر، يعلنون بصمت صاخب وحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة القضية الفلسطينية، ووحدة النضال الفلسطيني، فيغادرون حياتهم المستقرة ومعاشهم المضمون ومستقبلهم الممتد أمامهم ليصبحوا فدائيين، فدائيين في حركة فتح، ينطقون الكلمة بينهم بحذر على اعتبار أنها أحد أسرارهم المقدسة وعلى اعتبار أنها مكون رئيسي من ملامحهم الحقيقية!!!

آه يا تلك الأيام المفعمة بالأشواق الغامضة، والمشاعر النبيلة، والتضحيات السامية، والصعوبات المشرقة بأنوار الله، ما أجملك، في كل لحظة يوجد اختبار، ويتوجب على ذلك الفدائي الفلسطيني أن ينجح في الاختبار، هو نفسه صانع حدي التجربة ” الاختيار والثمن” وهو نفسه من تلقاء نفسه، يذهب هناك لحظات عمره كلها تتحول إلى كتمان، وترقب، ولكنه وهو يجتاز تلك الصعوبات من لحظة إلى أخرى يشعر بسعادة تشبه البشارة، ويشعر بحلاوة لا يضاهيها عسل الجبال العالية.

يا فوزي النمر، أيها الشهيد الذي حصلت على رتبة الشهيد منذ اللحظة الأولى وأنت تقسم القسم، ماذا تريد أكثر من ذلك، أن تكون قصة حياتك قد قرأتها في رواية وأنت ما تزال في قلب الحياة!!!

وأنك صعدت مع شعبك إلى القيامة المذهلة، من لحظة النكبة إلى لحظة الثورة!!!

وأنك رأيت بعينيك الحلم الفلسطيني يبدأ في أرض الواقع، بغض النظر عن ضربة هنا وفاجعة هناك، بغض النظر عن يوميات الانقسام المليئة بالأسئلة الشوكية التي تدمينا جميعاً وتظل بلا جواب.

يرحمك الله أيها الفدائي أنت وأمثالك من الرجال الكبار كنتم جزءاً من ذاكرتنا الوطنية التي لن تسقط أبداً في النسيان.

  • تعليقات الفيس بوك
  • تعليقات الموقع

اترك تعليقا