اعلانات

نفاق وفتحة واحدة

نفاق وفتحة واحدة

-: عين الاخبارية :- في ذات “نكشة رأس”؛ وصف الأديب الفرنسي “أندريه جِيْد” ما سماه “المنافق الحقيقي” قائلاً، إنه ذاك الذي لا يُدْرَكُ خداعه، لأنه يكذب بصدق!

وفي الواقع، لا يعلم واحدنا، بعد أكثر من ستين عاماً على رحيل “جِيْد”؛ ماذا كان

يقصد بتعبير “المنافق الحقيقي”، وما هو حكمه عليه. لعله يقصد أن نفاق ذلك الذي لا يُكشف خداعه، ويكذب “بصدق”؛ هو نفاق من النوع الحميد لا الخبيث، حسب التصنيف الطبي للسرطانات. لكن إتقان الكذب، لا ينبغي أن يكون فعلاً حميداً متحلياً بالصدق، إذ هو يصدر عن نفس مرذولة، مُنتجة لعفونة الخواطر وهواجس التربح الحرام. وربما كان “أندريه جِيْد” يغمز من قناة المنافق المحترف، الذي يثابر على الدسيسة والخداع، وبيع الكلام في الفضيلة والزهد

ونكران الذات، والألم على حال الناس. إنه، في هذا السياق، منافق حقيقي، ولكن من السهل إدراك خداعه، بل يستحيل مداراته، ولا مجال لمداراة حصاد مسعاه، من مباذل الدنيا، على نحو يتسم ببذخ مادي ورميم روحي وغرائز متوثبة!

* * *

في لغتنا، يوصف ذو الوجهين، بأنه منافق. ويخبرنا علماء أصول الكلمات، أن اللفظة جاءت من حركة الأرنب ومن خياراته للنجاة. إن هذا الحيوان الثديي الوديع المستأنس

الطيّوب؛ يحفر لنفسه مخدعاً يلوذ اليه. ولكونه ضعيفاً لا يأمن غدر الدنيا أو شر الزواحف؛ تراه يجعل لنفقه فتحتين، فإن هوجم من طرف، أفلت من الطرف الآخر. والفتحتان هما المعادل الموضوعي للوجهين. والوجهان في السلوك، هما المعادل الموضوعي للنفاق. لذا سمى الأقدمون الكذاب المخادع، منافقاً. وهنا نكتشف أن “أندريه جِيْد” كان يقصد عندما تحدث عن منافق حقيقي، لا يُدرك خداعه، ذلك الذي يلتزم وجهاً واحداً، ولساناً واحداً، وخطاً انتهازياً واحداً، ومنطقاً واحداً عصياً

على الإحراج والخجل، فيما هو يطيح بالعدالة والنزاهة وقيمة الزهد. هو، إذاً، صادق الالتزام برسالة نفسه أو مأربها، وحاسم في رهانه على فتحة واحدة، ما يرفع عنه أسباب التأصيل اللغوي لفكرة النفاق، من حيث هي شبيهة بالتدابير الاحترازية للأرنب، في نفقه البريء!

* * *

أعمامنا الشيوخ، زادوا وتحدثوا بشكل أوفى وأجمل، عن النفاق والمنافقين، وجعلوا هذه الذميمة ذات أنواع وأقسام، بعدد أنواع وأقسام السموم في الصيدليات. لكن أخطر هذه

الأنواع ـ حسب شيوخنا الأجلاء ـ هو ما يسمونه “النفاق الاعتقادي” وقوامه التظاهر بالتقوى وبالدين وبحراسة الفضيلة، بالتلازم مع أفاعيل المروق والبذخ في الحياة وفي السلوك وأخذ ما لا يحق أخذه، بمعايير عامة. إن هذا يسمونه النفاق الأكبر. وفي الحقيقة، صدق شيوخنا في ذلك، لأن رب العزة عندما تعرض لشأن هكذا منافقين، حدد مصير هؤلاء سلفاً، فقال سبحانه “لن تجد لهم نصيراً”. فمن يعاين “وضع” أي منافق ذَرِبَ اللسان، في المجتمع، لن تجد له محباً، حتى إن وجدت

من يسايرونه من بسطاء المنافقين، من ذوي الفتحتين، الذين لا نفع له منهم!

وعلى اعتبار أن الإسلام، يوفر هامشاً ويضع التدرجات لكل شىء، فإن هناك في الأثر، ما يُسمى “النفاق الأصغر” الذي لا ينزع الإيمان من القلب، وإن كان يطمسه، تحت ركام من وقائع النفاق المتوالية، التي ستنتقل، حسب الدياليكتيك، من النقطة الأخيرة للتراكم الكمي، الى الخطوة الأولى من التغير النوعي، فيصبح المنافق الصغير، منافقاً خالصاً!

بقي أن نبرق لمن يستعذبون أصوات المنافقين فنقول، على قدر ما تحلو أصوات هؤلاء الصغار، بالنسبة لآذانكم؛ فإنهم ليسوا مؤهلين لأن يعلموننا السياسة، ولا لأن ينتزعوا منا اعترافاً بأهميتهم، ولا لأن ينصبوا أنفسهم أصحاب فضل وعون. نعلم أن هؤلاء، يتظاهرون بعدم الانتباه لضجرنا وتأففنا من سلوكهم، بل تراهم يبالغون في إظهار الود لصرف الانتباه عن دسيسة يتهيأون لاقترافها، ويظنون أنهم يحسمون المصائر حسب ما

يريدون. إن جُحرهم بفتحة واحدة لا فتحتين، وهم ليسوا ممن لا يُدرك خداعهم

  • تعليقات الفيس بوك
  • تعليقات الموقع

اترك تعليقا