بخلاف ما يظنه البعض، ويحاول البعض الآخر توظيفه كمأخذ على منظمة التحرير وعلى سلطتها في الوطن؛ لم تكن علاقة نظام مبارك مع القيادة الفلسطينية، صحيّة ومزدهرة أو قائمة على الود والثقة المتبادلة. وباعتبار أن لا استغناء فلسطينياً عن مصر، فقد اتبعت القيادة الفلسطينية، طوال عهد مبارك، أسلوب التكتم على توترات الجلسات المغلقة معه، حفاظاً على المتاح من العلاقة مع الدولة، وبخاصة مؤسساتها التي ظلت تختزن عقيدة عمل قومية، كوزارة الخارجية وبعض الأجهزة التي يتعلق عملها بالرؤية الإقليمية الاستراتيجية.
سيأتي وقت، يعمل فيه باحثون، على إبراز الحقيقة بوثائقها وبراهينها. فالرئيس السابق مبارك، على الأقل منذ بدء انتفاضة الأقصى الثانية، اتخذ موقفاً سلبياً لم يحد عنه، من الرئيس الشهيد ياسر عرفات، وكان يُحمّله مسؤولية التدهور واندلاع العنف. وعلى اعتبار أن لا غنى عن مصر، كيفما كان الحكم فيها ومهما كان رأي هذا الحكم في الحركة الوطنية الفلسطينية؛ فقد اتبع الزعيم الشهيد أبو عمار أسلوب الصبر والاسترضاء للحفاظ على خطوط سالكة. وكان بعض الثرثارين الذين يعومون على شبر ماء، ويرون الأمور بظاهرها، ولا يكلفون أنفسهم مشقة التأمل في بواطنها إن كانوا قادرين أصلاً على التأمل؛ يسخرون من تكرار مجاملات الرئيس الشهيد ياسر عرفات العلنية، للرئيس مبارك، سواء في المؤتمرات الإقليمية أو في المؤتمرات الصحفية، وبخاصة عندما يسبغ الأول على الثاني، صفة البركة، على الأقل اشتقاقاً من اسمة وليس اشتقاقاً من أية وقائع مباركة. فهو “الرئيس المبارك حسني مبارك”. فلعل الرجل يتخفف من بعض احتقاناته، أو يقلص مساحة البغض الذي لم يجد حرجاً في الإفصاح عنه!
* * *
ومن المفارقات التي ربما تكشف عنها أية مذكرات شخصية أمينة، يكتبها بعض ممتشقي الأدوار في أيام أبي عمار، أن بشار الأسد، ومن قبله أبوه حافظ ومن معهما، كانوا يمارسون الدسيسة والوقيعة ويسعون دائماً الى جرّ حسني مبارك الى مربع حقدهم على الزعيم الرمز الشهيد، مثلهم في ذلك مثل الأوساط الحاكمة في إسرائيل. وكانت “جريمة” ياسر عرفات عندهم، أنه أبى أن يجعل القضية الوطنية ورقة في ملف مناوراتهم وتكتيكاتهم الإقليمية، مثلما جعلها كثيرون ومن بينهم “حماس” نفسها، ولو كره “الإخوان” السوريون. ومن دواعي الأسف، أن قلة من الانتهازيين غير الأمناء، من بيننا، كانوا يخدعون الرئيس ياسر عرفات، ويزعمون أن ثمة إشارات خضراء تلقوها من دمشق، توحي بأن الطريق باتت مفتوحة لتحسين العلاقة وحل الإشكالات مع النظام السوري. وفي الواقع لم تكن هناك إشارات كهذه، بل إن مقصدهم كان في حقيقته، السفر لدواعٍ وشؤون ومباهج خاصة، استوجبت عندهم، تأمين فرص التردد على دمشق والمكوث فيها كلما رغبوا في ذلك. ولكي يتحقق لهم هذا الأمر، كانوا يختلقون “إشارات خضراء” فيتلقون على أساسها “مهمات” سفر وأكلاف إقامة، مستغلين الحس الاستراتيجي لدى أبي عمار، وحرصه على علاقة تعاون قائمة على الاحترام المتبادل، بينه وبين النظام في سوريا. وما أن يصل هؤلاء الى دمشق، ويلتقون بالمستوى الثالث أو الرابع من قيادات النظام (من الوسط الأمني في الغالب) حتى يتم إفراغ الجعبة من كل همسة أو كلمة سمعوها من أبي عمار ضد الأنظمة في جلسات مغلقة. فالمجالس عندهم ليست أمانات، وإنما خوزقات.
ربما تكون هذه الملاحظة ثقيلة. لكن وضع النقاط على الحروف بات ضرورياً لمنع الخلط والخداع. فلم يكن الواقع هو أن نظام مبارك كان حليف “فتح” ومنظمة التحرير وضد “حماس” حصراً، لكي يُصار الى تحميلنا أوزار حكم قال فيه الشعب المصري كلمته.
وفي ذلك السياق المرير للعلاقة مع نظام مبارك، كان رأس “الممانعة” الذي هو النظام السوري، يجتهد ويدس ويحاول شطب علاقة القيادة الفلسطينية مع كل أعضاء نادي “الشرعيات” العربية الرسمية. يتلقى من الصغار أقاويل على لسان أبي عمار، ويوصلها رأس النظام السوري لأصحابها، بصرف النظر عن صدقية ناقليها. ففي ذات لقاء مع قياديين فلسطينيين، هاج مبارك وماج ضد الزعيم الفلسطيني المحاصر. فقد نقل اليه بشار عبارات تخصه وتستثيره. وكلما قال له القياديون الفلسطينيون الذين يلتقيهم، ما معناه إن أبا عمار لن يقول ذلك عنه، كان يعاجلهم بجوابه مشيراً الى جهاز الهاتف، هل تريدون أن تسمعوا بأنفسكم بشار على “السبيكر” (مكبر الصوت في الهاتف)!
كذلك سيأتي يوم، تنفتح فيه كل الدروب الى تحقيق تاريخي طليق، في واقعة التآمر الإقليمي على حياة الزعيم المقاوم ياسر عرفات، لتعرف الأجيال اللاحقة، من هم رؤوس “الشرعيات” الإقليمية الذين تحدثوا علناً، عن “غطاء” يحمي حياة الزعيم، وهددوا برفعه، علماً بأنهم هم الذين أوصلوه بجفائهم ونكرانهم وبؤس سياساتهم وضغوطهم، الى حيث ينبغي أن يتخذ لنفسه، من رؤوسهم الحليقة، غطاءً لا يُغطي ولا يصون!
* * *
لا يزاودن علينا أحد، سواء بمحبة مزعومة كانت مع مبارك، أو بوداد يتحقق لهم مع مرسي وسواه. ولا حاجة للقول، إن نظام مبارك لم يناصب “حماس” العداء، ولم يكن قاصراً ولا غافلاً عن أنفاقها. ومبارك هو القائل، عندما سأله سائل عن شكوى إسرائيلية من الأنفاق والسلاح: لماذا لا يغلقونها من عندهم. فقد ازدهرت الأنفاق وفُتحت في عهده، وحركة الشحن عبرها، بلغت ذروتها في عهده، بما فيها حركة توريد السلاح. ولم تستفزه في وقت الذروة، أراجيف عن جدار حديدي. ولم يتغير رضاه عن حال الانقسام في غزة، بتأثير أية فتاوى قرضاوية، وظل يفتح مجالاً لـ “حماس” لكي تتجاوز تبعات انقلابها، بمصالحة تحقق لها المزيد من التمكين. والعلاقة بين “حماس” والأجهزة المصرية تأسست في عهده، والحكاية ليست نميمة ولا كلاماً في الهواء. وإن سُجن واحد من “حماس” في مصر، فقد سجن ألف من “فتح”. ففي مصر هناك دولة ومؤسسات وإضبارات ومحاضر اجتماعات، فإن أوقع طرف فلسطيني نفسه في ذميمة الكذب والتنصل، ستكون الحقائق ماثلة وفي متناول رئيس الجمهورية. وليوفر الفاقدون للحساسية الوطنية على أنفسهم، كل العبث الذي هم فيه، ومحاولاتهم إحداث وقيعة بين مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، وليرتفعوا الى المستوى الذي سيلقى احترام مرسي وغيره، وهو إظهار الحرص الحقيقي على وحدة الصف الفلسطيني، على قاعدة برنامج سياسي واقعي للاستقلال الوطني. فالمزاودة لن تجدي نفعاً، والمزاودون ـ مثلما قالت العرب ـ كمن يرقمون على الماء!