اعلانات

خلاف قائم وهجاء بائس

خلاف قائم وهجاء بائس

مدارات خلاف قائم وهجاء بائس بقلم: عدلي صادق

لدى المعلقين الفلسطينيين، ما يشغلهم عن الاستمرار في التعرض لأمير قطر وشيخها الداهية، المتمكن في موضعه على كتف الجزيرة العربية، بكل أسباب التمكين الرائجة في زمن انعدام الوزن العربي. فلديه المال، وهو في موضع الامتثال للشرط الموضوعي، الذي تقرره دواعي شراكة استراتيجية مع الأميركيين، تتعلق بانتشار قواتهم عند منابع النفط. هو يزدهي بـ «الجزيرة» الفضائية. فالرجل لديه توجهاته، وله مثلما لغيره، الحق في أن يذهب الى حيث يريد، في السياسة والمناورة والسفر. وبكل الصراحة التي لا تعجب البعض، أقول لا يحق لنا تعييره بشيء، وإن كان لنا كل الحق في الاختلاف معه حول هذه النقطة أو تلك. وبلا مؤاخذة، لا معنى لتكرار عرض صورته مع تسيبي ليفني، وكأننا ضبطناه متلبساً بلقطة مصورة، وهو يصافحها، بينما هناك من بيننا من صافحوها ببلاهة وسعادة وزهو. فإن كانت المصافحة دليل إدانة وعفونة وبطلان، ربما يكون من بين وجهائنا، من خَفَق لها قلبه، عندما أعارته أنصاف نظرات رضى، شأنه في ذلك شأن أديب من الصف الثاني، مع مي زيادة في صالونها اللئيم، العامر الجيّاش في كل ثلاثاء، من عِقدي العشرينيات والثلاثينيات. كانت ميْ، وهي ذات مبتغى أدبي وتتوخى نجاحاً وشهرة في حقل الإبداع؛ توزع الإشارات على الرواد الكُثر، باللمح الخاطف. كلٌ على ما قُسِمْ، حسب التساهيل، ومن وحي اللحظة، فاشتعلوا جميعاً بالحب فرادى واهمين، حتى «شَعَطَتْ» أسلاكهم، قبل أن يزج بها أقاربها الى مصحة نفسية في لبنان، ومن ثم تُمنى هي بالموت في القاهرة، وحيدة بائسة. فقد حدث أن واحداً من المحبين، يُعد من مجددي الشعر وفرسانه، كتب مساء يوم إثنين، قصيدة يقول فيها: «إن لم أمتّع بميٍّ ناظري غداً، أنكرت صُبحك يا يوم الثلاثاء». وقد متّع كثيرون أنظارهم بالسيدة ليفني، لعلهم يفلحون معها في شيء سياسي، قد تُمهد له ألفة شخصية!

لا أظن أن مصافحات «حمد» القليلة، مع ليفني وسواها، كانت على ذات المستوى من الرداءة، التي أظهرها البعض من بيننا، عندما كان هذا البعض، يتعاطى مع «أولاد العم» على البساط الأحمدي، فيرمي معهم، بعضنا الآخر عن قوس واحدة. ثم لا يصح أن نختزل مخاطر الانقسام، في زيارة «حمد» الى غزة، وقد تناولنا أسباب مآخذنا عليها. فالانقسام شَبِعَ انقساماً قبل أن يفكر الرجل في زيارة غزة. والانقساميون الأدوات، مع الانقساميين المتعهدين والمقاولين، من ذوي المواويل والمصالح، هم مبتدأ وخبر الحال الفلسطيني المزري، على النحو الذي لا تجوز معه الإحالة الى شيخ أو أمير أو ملك أو سلطة أخرى!

لا يسترعي اهتمام العقلاء، ذلك النبأ عن «اكتشاف» فجائي لأصل حمد وجذره الديني باعتباره من أصول يهودية. فهذا كلام كاريكاتوري وفقير من حيث الصدقية، لكنه «عبيط» من حيث السياسة والثقافة، لأن الفلسطينيين يعلمون أكثر من سواهم، أن الأصول الدينية والقبلية، البعيد منها والقريب، لا ترفع وضيعاً ولا تحقّر نبيلاً. وعندما نستخدم وسائل إيضاحية من هذا المستوى المهكّع القاصر، فإننا نضرب أول ما نضرب، ثقافتنا السياسية، التي تتغذى من منابع شتى ذات محمولات ومفارقات، لم تتوافر لقضية، مثلما توافرت للقضية الفلسطينية. فهناك يهود أبناء وأحفاد يهود، يُظهرون اليوم، نُبلاً وإحساساً بالعدل، أكثر من أبناء وأحفاد مسلمين من الأخيار أو المظلومين. بل إن ما يقوله أو يفعله، متلطٍ ما، بنسب شريف، ربما لا يفعله منتمٍ بالديانة والجنسية، لليهودية الإسرائيلية. فهذا ليس مقياساً، وليس حكراً على ثقافة الحركة الوطنية الفلسطينية، فهو لم يغب عن اعتبارات «حماس» أيضاً، التي استقبلت في غزة يهوداً مناصرين ومتعاطفين. ولدينا مثالان يربح فيهما اليهودي الجدارة بالاحترام ويفوز على المسلم: هناك مثلاً الباحث الإسرائيلي شلومو زاند، الذي يكتب ويُعرّض نفسه لمخاطر الاغتيال، فيقول إن إسرائيل، شعباً ودولة، ملفقتان، ولم يكن ينبغي أن تكون، وقد نذر نفسه للدرس والبحث من أجل هذا الرأي. في الوقت ذاته يقر باعتزاز انه يهودي من أسرة نجت من النازية ورفضت التعويض الألماني. بالمقابل، هناك مهتم آخر بالفكر وبالتاريخ، ويطرح نفسه فيلسوفاً عربياً مسلماً، ويردد باعتزاز انه من بيت «أشراف» لكنه يريد علناً شطب هوية الضفة الفلسطينية وإزالة صفتها الوطنية من أجندة التطورات السياسية، على الرغم من ذاكرة أهلها ووعيهم وانتمائهم. فما هي أهمية الانتماء الديني هنا، وأيهما الأجدر بالاحترام؟ وهل يتعيّن علينا أن نتقصى الأصل والجذر الإسلامي لشلومو زاند، وكذلك الأصل اليهودي للمسلم المميز بنَسَبِه؟ كذلك من هم الأجدر بالاحترام، عكاشة وسعدة ومحمد حامد من مسلمي مصر مثلاً، أم جدعون ليفي وشلومو زاند ونعوم تشومسكي، من يهود إسرائيل وأميركا؟ ثم إن الاتهام بالديانة لغير من يدين بها، يحرجك ويحرج المساندين لك من يدينون بديانات غير الإسلام!

* * *

نعود الى الحبشة، دون أن يعنينا الدفاع عن أحد، شيخاً كان أم أميراً أم رئيساً أو ملكاً. فما يعنينا هو التذكير بمحددات التقييم الموضوعي والأسس الصحيحة لمناهضة موقف أو تفكيك رواية، إن كنا بصدد نصوص جادة ومفيدة. لقد كتبنا ونُعيد، إن خطوة أمير قطر، كانت ستصبح إيجابية وفعالة في السياق التاريخي العام، لو أنها جاءت على قاعدة المصالحة وباشتراط انجازها. والرجل يملك هو والرئيس المصري؛ أن يجمعا طرفي الخصومة، تحت طائلة تحميل المسؤولية الحصرية للطرف الرافض للمصالحة، عن استمرار الحال المزري في غزة على المستوى التفصيلي، وكذلك المسؤولية الحصرية عن الحال الأكثر بؤساً للموقف السياسي الفلسطيني والوطني العام.

بخلاف ذلك، لا يُستحب المضي في الهجاء الشخصي، لأنه يضر صاحبه ويُضعف منطقه ولا يؤثر على الطرف المستهدف، وإنما يُعزز موقفه. فقد حُمِّلَ حمد بن خليفة آل ثاني ومحطته التلفزيونية، معظم سياقات الثورة السورية بقضها وقضيضها ودمها وحيثيات وقائعها اليومية، وبفحواها الاجتماعي، وكان ذلك التحميل مشبعاً بالإنكار الضمني السخيف من قِبل القتلة، لوجود الشعب السوري ولفحوى إرادته الرافضة لاستمرار الحكم الاستبدادي العقيم الذي لم يفلح في شيء، ويريد البقاء في الحكم الى ما يسمونه «الأبد»، على أساس إنكار كل ما أوقعه من بطش وألم وفقر وفُرقة في المجتمع الذي يمسك بخنّاقه. على هذا الصعيد، كان موقف حمد أجرأ وأعمق تأثيراً من مواقف سواه، ومن بينهم بعض حلقات «الإخوان» الضالعة شقيقتها السورية، في النضال من أجل الحرية والكرامة. لكن أمير قطر لم يكترث، ولم يُعن بالرد على الثرثرات، ولم يجد ضرورة لإرسال توصيفات مضادة لشخص الحاكم القاتل، الذي جرّد إعلامه الكاذب الفائح، لكي يمس شرفه شخصياً. ويقيني ان حمد، الذي كان صديقاً لبشار الاسد، لديه ما يقوله من واقع علاقات كانت قائمة ومفتوحة معه بعفوية، ومعلوم أن من يعرف النظام السوري على تلقائيته، يعرف الكثير من تعبيراته. من هنا، نرى أن الأمور نسبية، فإن لم نتعاط معها على هذا الأساس، سنظل نميل مع الرياح حيث تميل. هناك مواقف متخابثة وأخرى حميدة، ولكل منها معياره وحساباته. ولكون محسوبكم لا يقبض الرغي الفارغ ولا التوصيفات المرسلة جزافاً، فإنه يتمنى الفلاح للنجاشي في سوريا، مثلما تمناه له في ليبيا، قبل أن تنجلي أمام فاقدي البصيرة، الحقائق التي كنا نعرف بعضها، وهي أن محامي من تبقوا من الأسرة القذاذفة الفاجرة العابثة الملطخة أيديها بالدماء، وخليلاتهم، صهيونيون متطرفون، وأن هؤلاء الذين حكموا ليبيا واستأثروا بخيراتها لعشرات السنين، ليسوا ثوريين ولا ما يحزنون. أما في موضوع زيارة حمد، فإن رأينا هو أنه يتخابث وقد شد الرحال الى غزة، وفق ما نراه عبثاً في ترتيب الأولويات، إذ أراد إخراج «حماس» نهائياً من الدائرة الإيرانية، وتخليق حماسة خطابية وطنين لافت، على لسانها حيال الثورة السورية، ضمن حربه المعنوية على النظام السوري، وربما اضطر الى الهمس في ثنايا حديث المشروعات، بأنه لن يبخل على الجماعة بشيء، وأن بالله المستعان وهو سبحانه المُغني عن دعم إيراني يؤخذ ذريعة للحديث عن فضائل وممانعات «جهادية» للطرف الذي يساعد على قتل السوريين بالجملة. لعله رأى أن هذه أولوية عاجلة، من شأنها أن تضمن ربحاً أكثر مما يُفترض تحقيقه، من مصالحة فلسطينية كسيحة وغير مأمولة. وفي هذه حصراً، يقع الخلاف الذي لا يُعالج بهجاء بائس!

  • تعليقات الفيس بوك
  • تعليقات الموقع

اترك تعليقا